ایکنا

IQNA

الكتاتيب القرآنية في جزر القمر وأثرها في تشكيل الهويّة الوطنيّة

12:57 - May 29, 2017
رمز الخبر: 3464600
موروني ـ إکنا: ظلّ الكُتّاب في جزر القمر عبر التاريخ أشبه بالرباط الذي يُعِدّ أبناء المسلمين للجهاد بنوعَيه العقديّ والحربي، حيث يتنافس القمريون في إقامة المدارس القرآنية حفاظاً على دينهم وعلى هويّة أطفالهم من موجات التغريب والتنصير المحدقة بهم، دون مساعدة خارجية أو مراقبة رسمية.
الكتاتيب القرآنية في جزر القمر وأثرها في تشكيل الهويّة الوطنيّة
وأفادت وكالة الأنباء القرآنية الدولية(إکنا) أن موضوع هذا المقال حقلٌ قليلاً ما رعَتْ فيه أقلام الكتّاب والباحثين، فكان الباحث فيه كالباحث عن وفرة الماء والخضرة في وادٍ غير ذي زرع، وقد توخيتُ في هذا المقال بيانَ الدور المركزيّ للكتاتيب القرآنية في صناعة الشخصية وتشكيل الهوية الوطنية للشعب القمري، من خلال مناهجها التعليمية والتربوية، وهو دورٌ يُراد له اليوم التجدد والانبعاث، آخذاً المتغيرات العلمية والتربوية في الحسبان، والرياح الهوج التي تهبّ عليها بعين اليقظان، برجاء أن تظلّ الكتاتيب القرآنية قائمةً مستمرة، ملتزمةً بدورها الأصيل، مستفيدةً من تجليات العصر وعطاءاته، متسلحةً بمعارفه وتقنياته، لكي يعيش أبناؤنا وبناتنا زمانهم وواقعهم.

الكتاتيب القرآنية.. النشأة والتطور:

الكتاتيب: جمع كُتّاب، والكتّاب اسم لما يُتخذ مكاناً لتأديب الناشئة وتعليمهم مبادئ القراءة والكتابة، وقد عرف العرب الكتاتيب في جاهليتهم، وعلا شأنها في عهد النبوّة والخلافة الراشدة، واتسع مداها مع اتساع رقعة ديار الإسلام، ولم تلبث أن صارت قبلةً لتلقي القرآن المجيد وحفظه، وتعليم أصول الدين وفروعه، إلى جانب رسالتها الأصلية، وتُعرف الكتاتيب في بعض الأقطار الإسلامية باسم: (الخلاوي القرآنية).

وقد ذكر لفيف من المؤرخين والباحثين أنّ الإسلام أشرق بنوره على ربوع جزر القمر في حدود عام 86 – 96هـ، حينما تنفّس صُبحُه على سواحل شرق إفريقيا وربوعها في تخوم الربع الأخير من القرن الأول الهجري: «ومن جملة الآثار التي دلّت على ذلك: الجوامع والمساجد التي بُنيت منذ (خمسمائة – سبعمائة) سنة، وقد وجدت هذه التواريخ في بعض جدرانها مكتوبة بالعربية» ، والتحقيق على أنّ شمس الإسلام أشرقت في الأرخبيل نهاية الربع الأخير من القرن الأول وبداية الربع الأول من القرن الثاني من الهجرة.

ويذكر الباحث القمري الألمعيّ الدكتور حامد كرهيلا أنّ الكتاتيب القرآنية دخلت إلى جزر القمر برفقة الإٍسلام وصحبته، وأنّها كانتْ أول نظامٍ تعليميٍّ عرفه المجتمع القمري في التربية والتعليم، وتسمّى بالقمرية: PA- LASHIYO با لشييو: يعني (مطبخ التعليم)، أو (مطبخ الكِتاب)، فقد كانوا يتخذون (الخلوة القرآنية) مكاناً ملاصقاً لمطبخ البيت الضيق بطبعه في غابر الأزمان، خصوصاً عندما يكون سيد الخلوة امرأة، وقد اتخذت الكتاتيب من أفنية الدور ومن مواقع وسط البلدة والقرية عندما يكون سيد الخلوة رجلاً، وربما كانت التسمية من باب الاستعارة ليس إلا.

وتشير روايات إلى أنّ أول كتّاب شهده الوطن القمري كان ببلدة: نتساوين NSTAWEN، وهي بلدة ساحليةٌ معروفةٌ باتجاه شمال جزيرة القمر الكبرى، ويُعتقد على نطاقٍ واسعٍ أنها كانت المحطة الأولى التي حطّت فيها قافلة الإسلام رحلها، ومنها انبثق نوره إلى أرجاء الأرخبيل سريعاً على يد الداعيَيْنِ الشهيرَيْن اللذين يُنسب إليهما حمل رسالة الإسلام إلى هذه الجزر، وهما: (إيتسوا موينزا) ورفيقه في الرحلة والدعوة: (في بيجا).

 بناء الكتاتيب وإدارتها:


كانت الكتاتيب تُشيّد على شكل أكواخ، تضيق وتتّسع حسب عدد السكان وكثرة الفتيان والفتيات المترددين إليها، وكانت تُبنى من سعف النرجيل وأشجارها، في عملٍ جماعيّ تطوعيٍّ رائع من المجتمع المحلّي، شأنه في ذلك شأن بناء المساجد، في يومٍ مشهودٍ هو من أسعد أيام القرى القمرية، وأكثرها تجرّداً وتطوّعاً وحماساً دينيّاً.

ولم يزل المعلّم هو سيد الكُتّاب ومديره، يعمل فيه صباح مساء متطوعاً محتسباً، وينهض المجتمع الأهلي بواجب الإِشراف العام والمراقبة المستمرة، ولم تكن للحكومات القمرية يدٌ ولا عونٌ يُذكر لها فيها، باستثناء فترة حكم الرفيق علي صالح متشيوا (1975م - 1978م)، وربما كان هذا الإهمال بحكم النظام العلماني المخادع الموروث من المستعمر، القاضي بأن ترفع الحكومة يديْها عن كلّ ما هو دينيّ،  فالدّين في نظرهم شأنٌ شخصيٌّ وجهدٌ أهليٌّ لا شأن للدولة به؛ حتى لو كان الشعب كله حنيفاً مسلماً، مع أنّ كثيراً من رجالات الدولة وساستها في الماضي كانوا من أبناء الكتاتيب وروّادها، يرسلون أبناءهم وبناتهم إليها، وربما دفعوا مكافئات مالية لمعلمي الدروس الخاصة في بيوتهم لتعليم أبنائهم وبناتهم القرآن الكريم ومبادئ العربية وأصول الدين وفروعه !.

ولربما كان رفع الحكومة يديْها عن المؤسسات الدينية (المساجد، والكتاتيب، والمدارس الإسلامية)، وتركها للمبادرات الفردية والأهلية، خياراً سليماً في المرحلة الماضية، فقد عزّز ذلك من صبغتها الدينية، وضمن لرجالها درجات عالية من الحرية والسموّ والتجرد.

لكن في ضوء المتغيرات السياسية والاجتماعية والتربوية المتعلقة بالناشئة، وارتفاع حجم تحديات التعليم الموجّه فكريّاً وإيديولوجيّاً، فمن المفيد أن يبادر النظام السياسي إلى الاقتراب من الكتاتيب القرآنية تنظيماً وإشرافاً عليها، وقايةً لها من الانزلاق، وضماناً لديمومتها واستقلاليتها في أداء واجبها في التربية والتعليم، وإذا قررت الجمعيات الخيرية الإسلامية النهوض بواجب الإدارة والإشراف على الكتاتيب القرآنية فهي أحقّ بها وأهلها؛ بالتنسيق مع الجهات الرسمية المختصة ومع المجتمعات المحلية المهتمة.

كان العمل في الكتاتيب القرآنية يورّث كما يورّث الحقل والمزرعة، من جدّةٍ لأمٍ لبناتها، ومن جدٍّ لأبٍ لأبنائه، وربما انتقلت إدارة الكتّاب إلى أبرز التلاميذ النابهين، الذين أكثروا من خدمة الشيخ، وكانوا موضع ثقته وأمانته، ليمهّد لهم السبيل لخلافته على رأس الكُتّاب.

وقد ذكر الدكتور محمد ذاكر حسن السقاف أنّه كان من المظاهر الحضارية المحفوظة لإدارة الكتاتيب ونظامها: «أنّ النساء أصبحن يحتلنّ مكانة ممتازة في إدارتها وتشغيلها، بصفتهنّ معلمات للقرآن الكريم، والتربية الأولية للطفل، وفي تلقينه الأخلاق والمبادئ الإسلامية الفاضلة»، وهي سابقة  حضارية حميدة تُسجّل للنظام التربويّ والثقافيّ للكتاتيب القرآنية، فقد تمتعت المرأة في ظلالها ليس فقط بحقّ التربية والتعليم كالرجل، ولكن نالت حقّ التوجيه والقيادة الإدارية للمؤسسة التعليمية والتربوية التي كانت معروفة في البلاد حتى تاريخه.

نظام التعليم في الكتاتيب القرآنية والحلقات التعليمية:

 نظام التعليم في الكتاتيب القرآنية هو أول نظام تعليميّ شهدته جزر القمر، وقامت مناهجها على تحقيق جملة أهداف، منها:

1 -  تعليم القرآن الكريم قراءةً، وحفظاً لما تيسّر منه.

2 -  دراسة أصول الدين وفروعه على مذهب الإمام الشافعي.

3 - تخريج القيادات الدينية والاجتماعية، من الأئمة والخطباء والوعاظ المصلحين، وأعيان المدن والقرى، القادرين على تحمّل أعباء قيادة المجتمع دينيّاً واجتماعيّاً.

4 - تربية وتنمية الهوية الوطنية والحضارية للمجتمع القمري عربيّاً وإسلاميّاً، والمحافظة عليها.

 وقد أشار الدكتور مصطفي الزباخ إلى أنّ: «الكُتّاب في جزر القمر ظلّ عبر التاريخ أشبه بالرباط الذي يُعِدّ أبناء المسلمين للجهاد بنوعَيه العقديّ والحربي، حيث يتنافس القمريون في إقامة المدارس القرآنية حفاظاً على دينهم وعلى هويّة أطفالهم من موجات التغريب والتنصير المحدقة بهم، دون مساعدة خارجية أو مراقبة رسمية».

ومن أجل ذلك ظلت الكتاتيب القرآنية سدّاً قويّاً في مواجهة الفكر العلمانيّ التغريبيّ في التربية والتعليم الذي تعمل المدارس الفرنسية على ترسيخه في المجتمع القمري، كما اجتهدت في تحقيق التوازن المنشود في بناء الشخصية القمرية المثقفة بثقافة مجتمعها، والقادرة على المشاركة والتأثير في حركة المجتمع وتطوّره.

وقد ذكر الباحث القمري دمير بن علي أنّ النظام التربويّ في الكتاتيب القرآنية هو نظام متكامل- وليس نظاماً مكمِّلاً- لبناء شخصيةٍ سوية، قادرةٍ على المشاركة في كلّ مناحي الحياة بإيجابية وفعالية مشهودة، ومن العسير أن تتقبل الكتاتيب القرآنية التجاهل أو التجاوز، إذ لا تزال آثارها عميقة التأثير والتوجيه، وما تفتأ تمثّل الموئل الحاضن لإنشاء الشخصية القمرية السوية وتشكيلها، فلا يقتصر دورها على تلقين التلاميذ جملة من المعلومات لينتقلوا بالنجاح فيها من سنةٍ إلى أخرى.. كشأن ما يقع في المدارس العلمانية الحديثة، التي صنعت من بعض مخرجاتها مشكلات تعيق تقدّم المجتمع ونهضته؛ أكثر منهم روافد لتطوّره وازدهاره.

 الكتاتيب القرآنية المطوّرة:

نشأت فكرة (الكتاتيب القرآنية المطورة) نتيجة من نتائج ورشة عمل- قيل إنها وطنية- عُقدت عام 1994م، وكان الغرض منها: محاولة الجمع والتوفيق بين الكُتّاب الأصيل والمدرسة النظامية الحديثة، بحيث يؤدي الكتّاب رسالة ثنائية تجمع بين النظامين: نظام الكتاتيب (تعليم القرآن الكريم، ومبادئ اللغة العربية، والتربية والتهذيب، وأصول الدين وفروعه)، من السنة الثالثة إلى الخامسة، ولمدة ثلاث سنوات، وتمهّد سبيل الطفل للالتحاق بالمدرسة النظامية الفرنسية بعد بلوغه السنة السادسة، دخل هذا النظام الجديد حيّز التنفيذ في القطاع الخاص عام 1998م، بدعمٍ ماليٍّ وتجهيزات معلنة من منظمة اليونيسف.

وأثار مشروع (الكتاتيب القرآنية المطورة)- ولا يزال- جدلاً واسعاً، بعد أن تبيّن للناس أنها تأتي بنتائج عكسية في مخرجاتها، فهي إنْ نجحتْ جزئيّاً في إعداد الناشئة للالتحاق بالمدرسة النظامية الفرنسية، فقد أخفقت كليّاً في تعليمهم القرآن العظيم ومبادئ القراءة والكتابة بالأحرف العربية، وتنمية الهوية الوطنية في نفوسهم، فهي برأي الباحث التاريخي دمير بن علي: «حلقة جديدة من الصراع القديم الجديد بين المدرسة القرآنية العربية، وبين المدرسة العلمانية الغربية»، في حين يرى معالي السيد محمد أحمد السّقاف، وزير الخارجية الأسبق، ورئيس جمعية وحدة الكتّاب القرآنية بجزر القمر: «بأنّه من الخطأ المبين تقسيم الكتاتيب القرآنية إلى: قديمة جامدة وإلى حديثة مطوّرة، ما دامت رسالتها هي تعليم القرآن الكريم، ومبادئ القراءة والكتابة العربية، وإنّ التّسمية المبتدعة تبعث انطباعات سيّئة من أول وهلة».

لقد أدرك الناس سريعاً بأنّ تدخل اليونيسف لتجديد الكتاتيب القرآنية وتطويرها هو من مواقع التهم، ويثير غير قليلٍ من دواعي القلق، خصوصاً بعد أنْ ظهر للناس أنّ مخرجاتها أقرب إلى الإفلاس منها إلى الإسعاف، سوى أنهم ضيّعوا أعزّ مرحلة في حياتهم لتعليم القرآن الكريم.

إنّ ما ينشده القمريون هو تطوير العمل في الكتاتيب القرآنية تطويراً ينبع من أصل الذات، من داخل قواعد الهوية الثقافية والحضارة الوطنية، وليست مشاريع تقتلعهم من جذورهم، أو برامج تربوية تهدم ولا تبني، وتفسد ولا تصلح، ومن أبرزها المدرسة الفرنسية.

 التعليم الرسمي ومدارسه:

1 - المدرسة الفرنسية الحكومية:

شقّ نظام التعليم الرسمي طريقه في البلاد مع جحافل التبشير والاستعمار، فقد ظهر مع احتلال جزيرة مايوت القمرية في 13 يونيو 1843م، وشمل القطاع العام والخاص، ولغة التعليم هي الفرنسية، ومن أوضح أهداف المدرسة الفرنسية:

- ترسيخ قيم العلمانية في التربية والتعليم.

- ترسيخ مبادئ الفرنكوفونية والتبعية فكراً وثقافةً وسلوكاً.

- تكوين القيادات المحلية التي تتوارث السلطة والثروة، وتضمن للاستعمار مصالحه الحيوية ونفوذه في الشأن كله.

- العمل على تذويب الهوية الحضارية والثقافية للشعب القمري، وإرخاء وشائج انتمائه للأمّة العربية والإسلامية، وتقطيع أسبابها وأسلاكها الواصلة إذا لزم الأمر.

2 - التعليم الثنائي المزدوج:


نظامٌ تعليميٌّ وتربويٌّ حديث، تقوم مناهجه على تدريس المنهج الرسميّ الحكومي باللغة الفرنسية، بجانب منهجٍ متكامل متدرّج لتعليم القرآن الكريم واللغة العربية والتربية الإسلامية، من مرحلة التعليم الأساسي إلى الثانوية، ويختلف معدّل السّاعات المعتمدة من مرحلة إلى أخرى.

وتُعدّ معاهد رابطة العالم الإسلامي الستة في الجزر الثلاث سباقةً زمنيّاً في هذا النوع من التعليم، وتتبوّأ (مدارس الإيمان) مقعد الصدارة كمّاً ونوعاً، وبينهما عددٌ من المدارس الخاصة والأهلية تدور في الفلك نفسه، وفقاً لغايات وأهداف تعليمية وتربوية نبيلة، أبرزها إنهاء حالة الفصام النكد بين الكتاتيب القرآنية، وبين نظام المدرسة العلمانية الفرنسية الحديثة.

وتبدي الحكومات المتعاقبة، منذ الاستقلال عام 1975م، رغباتها في تطبيق النظام الثنائي، بوصفه النظام الأكثر ملاءمة للهوية الوطنية ولمتطلبات الوطن والعصر، ولكنّها أخفقت في ذلك، وتتعلّل ظاهراً بقلّة الإمكانيات المالية وندرة الكفاءات البشرية، وتذعن طوعاً وكرهاً للضغوط المناوئة لتنمية دعائم الهوية العربية والإسلامية في الأرخبيل.

تمتاز المدارس ذات التعليم الثنائي المزدوج بمخرجات أفضل وأكفأ في المواد العلمية، وبنتائج أطيب في إتقان تعليم اللغة العربية والتربية القويمة، والاعتناء بالهوية الوطنية العربية الإسلامية، وتشكّل مخرجاتها أمل الأمّة بعد الله عز وجل.

 نظام الدراسة في الكتاتيب ومنهجها:

يرسل القمريون أبناءهم وبناتهم إلى الكتاتيب القرآنية فيما بين سنّ الرابعة والخامسة، ومنهم مَن يلتحقون بالمدرسة الفرنسية الحديثة من السادسة، ومنهم مَن يستمرّ في المدرستين ما شاء الله له أن يستمر، جامعاً بين الدراسة في المدرستين، إلا أنّ هذه الفئة تكاد تضمحلّ تماماً مع غلبة انتشار المدرسة الفرنسية الحديثة، ويخضع هؤلاء وأولئك لنظامٍ تعليميٍّ وتربويٍّ واضح المعالم والأهداف، يكون مقياسه القدرة على تجاوز المرحلة وتحقيق أهدافها بنجاح، بغضّ النظر عن عمر الدارس متقدماً كان أو متأخراً.

في الكتاتيب يفترش الناشئة الأرض صفوفاً، أولها للبنين وآخرها للبنات، وتُخصَّصُ مصطبة (مقعد) مرتفع المكان والمكانة لجلوس المعلم أو المعلمة عليه (مقعد المعلم)، لا ينبغي لأحدٍ القعود عليه أبداً، لا عمداً ولا خطأ، فغياب المعلم مثل حضوره احتراماً وتقديراً لمكانه ولمكانته.

المراحل التعليمية في الكتاتيب القرآنية:

يقوم نظام التعليم في الكتاتيب القرآنية الأصيلة على مرحلتين، نقتصر هنا على الأولى منهما، وهي: مرحلة (الكتاتيب المبكرة):

لهذه المرحلة (الكتاتيب المبكرة) ثلاثة مستويات:

المستوى الأول: مرحلة تعليم مبادئ القراءة والكتابة: حيث يبدأ التلميذ بتعلّم الحروف الهجائية العربية حرفاً حرفاً، معرفةً وحفظاً ونطقاً، وكتابةً على الألواح، وفقاً لمنهج كتاب (القاعدة البغدادية) الذي يُعدّ الكتاب المرجع في هذه المرحلة والتي تليها.

وهناك تقاليد وأعراف تتبّع إيذاناً بتجاوز التلميذ أو التلميذة هذه المرحلة بنجاح، تتمثّل في تقديم (مأدبة اللبن) إلى الكتّاب، وهي أرطال من لبن البقر مخلوطة بعسل القصب، يقدم إلى الكُتّاب ويشربه تلاميذه وتلميذاته.

 المستوى الثاني: مرحلة قصار السور قراءة وحفظاً: تبدأ هذه المرحلة بقراءة سورة الفاتحة وحفظها، انتهاءً بسورة النبأ، أي: الجزء الثلاثون من القرآن الكريم، وهو في حسّ المربين القمريين يمثّل الحدّ الأدنى، أو ما لا يسع المسلم القمري ترك حفظه من القرآن، لكي يؤدي به شعائر الصلاة، من أجل ذلك جعلوا قراءته وحفظه مرحلة قائمة بذاتها فيما يبدو، بدليل أنّ الأئمة التقليديين يكادون ألا يتجاوزوا في صلواتهم قراءة قصار السور من الجزء الثلاثين، وفي صلاة التراويح في شهر رمضان المعظم.

والتقليد المتبع بعد الفراغ من هذه المرحلة هو: (مأدبة الخبز)، حيث يُقدِّم التلميذ أو التلميذة خبزاً شعبيّاً، يقطّع ويوزّع على التلاميذ والتلميذات الذين قضوا ليلة كلها سعادة وترقب لطلوع فجر هذا اليوم البهيج، حتى لا يفوت أحدهم نصيبه منه.

المستوى الثالث: مرحلة قراءة القرآن كاملاً نظراً (الختمة): يتوقف الشروع في مرحلة قراءة القرآن كله نظراً، سورة بعد سورة، على تقديم التلميذ (مأدبة الخبر)، وبعده يشرع في قراءة القرآن ورداً يوميّاً بالتلقين من أول سورة البقرة إلى سورة الناس، ليؤديه كما سمعه في اليوم التالي أمام شيخه، قبل أن ُيلقّن الورد الجديد بما لا يتجاوز عشر آيات في اليوم.

والتقليد المتبع بعد الفراغ من قراءة القرآن كله هو (الختمة)، إيذاناً بتجاوز التلميذ أو التلميذة هذه المرحلة بنجاح، وهو أن يبعث غنماً أو ماعزاً إلى الكتّاب شكراً لآلاء الله وأنعمه، وُيقدّمُ لحمُه مع الأرز مأدبةً للتلاميذ والتلميذات في يومٍ مجموعٍ له الناس.

 الكتاتيب وأثرها في تشكيل الهوية الوطنية القمرية:

تتمثل أهمّ مكوّنات الهوية الوطنيّة القمرية، التي تتشكّل في كنف الكتاتيب القرآنية، فيما يأتي:

أ - زرع معنى الانتماء إلى الوطن الجامع:


من الكتاتيب نشأت وتشكّلت عناصر الهوية الوطنية المميزة للشعب القمري، حيث تعمل برامج الكتاتيب القرآنية على ترسيخ الشعور بالتمازج بين الناشئة وبين الأرض (الوطن) والانتماء الحنون إليه من خلال التعاطي المبكر مع مخرجات الأرض (الوطن)، فالكتاتيب تُبنى وتفرش من أشجار النرجيل التي تزخر بها الأرض القمرية، ومثلُها اللوحة والمحبرة فهما صناعة تقليدية مما تنبت أرض الوطن، فجميع مستلزمات الكتاتيب القرآنية تنبع من بيئة الأرض (الوطن)، وهو ما يزرع الشعور العميق بالانتماء، مشفوعاً بالاستجابة للحاجات الفطرية.

ويرى د. مصطفي الزباخ أنّ ظاهرة الشعور بالانتماء لدى المواطن القمري صفة عربية فطرية متأصلة في المجتمع القمري بنوعيه: (العقدي، والاجتماعي)، ففي الأول: «يعدّ الشعور بالانتماء إلى عقيدة إسلامية واحدة من أكبر العوامل في تماسك المجتمع القمري، وتعاونه ضدّ كلّ خطر يمثّلُ في وعيه الجماعيّ تهديداً لشخصيّته وقيمه، من هنا كان الكُتّاب شكلاً من أشكال المقاومة الشعبية السّلمّية ضد تيار التغريب والتبشير المسيحيّ...

أمّا الانتماء بدلالته الاجتماعية؛ فقد كان من أقوى العوامل أيضاً في تقوية الروح المعنوية لدي القمري، حيث يقوى لديه الشعور بالتعاون والمساندة لدرجة يطغى عليه الإحساس بـ «النحن» على الإحساس بـ «الأنا»، وبذلك تصبح الجماعة مقياساً للفرد».

ب - تعلّم اللغة العربية وإتقان اللغة القمرية:

تعدّ اللغة أحد أهمّ مرتكزات الهوّية الثقافية والحضارية للأمم والشعوب، وأقواها تأثيراً وحشداً لأفرادها، فهي تتجاوز بالمتحدثين بها الحدود الجغرافية والسياسية، وتخترق آفاق الحسّ والوجدان، وهي أوسع مقومات الهوية فسحةً وسعة، فاللغة مثلها مثل العلم والثقافة: رَحِمٌ واصلٌ بين أهله.

 اعتمدت الكتاتيب القرآنية بجزر القمر منهجاً مزدوجاً في صناعة الهوية اللغوية للشعب القمري وتشكيلها،  حافظت به على حيوية اللغة القمرية ووحدتها في الجزر القمرية كلّها، من خلال التدريس بها، وتعويد الناشئة عليها، تحمّلاً وأداءً، في الدروس الدينية اليومية، عبر منهج ترجمة العلوم الدينية من العربية إلى القمرية، ترجمةً قائمةً على التلقين مشافهةً تحمّلا وأداءً، كما ساهم منهج الترجمة للمختصرات والمطولات الفقهية والمتون في إغناء اللغة القمرية بالمعاني العلمية والدينية والأدبية، وإثرائها بالمفردات والتعبيرات العربية التي دخلت القاموس القمري وصارت أصيلة فيها، كما بعث العديد من المعاني والألفاظ القمرية من مرقدها، ونفخ فيها روحاً جديدة تعيش بها بين الناس، فقد كان الشيخ  يجدّ ويجتهد في البحث عن الكلمة الأكثر دقة وعن العبارة القمرية الأقرب إلى المعنى في العربية، ويقوم الدارس بحفظ تلك الترجمة الغنية، ويستوعب تلك الألفاظ المنتقاة بدقّةٍ وعناية، ويؤديها كما سمعها في الجلسة التعليمية التالية بأمانة تامّة، مما يتيح للدارس امتلاك ثروة لغوية شاملة، وحِفْظ تراكيب قويّة الدلالة في اللغتين، أما إذا أخفق الدارس في أداء درسه مترجماً من العربية إلى القمرية؛ فجزاؤه الحرمان من تلقي درسٍ جديدٍ في يومه.

وهكذا أصبح شيوخ الكتاتيب القرآنية وأبناؤها مراجعَ مهمّة، وخطباء مفوهين، باللغة القمرية، وصاروا أقدر الناس على التفكّر والتفكير وحسن التعبير بها، مما أهّلهم ليكونوا الأكثر تمكّناً وتمكيناً في تمثيل الهوّية اللغوية للوطن، والأكثر أخذاً بناصية ثقافته الدينية والاجتماعية.

أمّا حظوظ الدارسين في الكتاتيب من العربية الشريفة؛ فهم من أكثر الناس فقهاً بها ألفاظاً ودلالات، سوى أنّ التحدث بها تعتريه صعوبات جمّة، بالنظر إلى أنّ أسلوب الترجمة الحرفية من لغة إلى أخرى، وإنْ كان معيناً على حفظٍ واسعٍ لمتن اللغة ودلالات مفرداتها؛ فإنه عائق في انطلاقة اللسان بالحديث، لأنّ المنهج منهجُ ترجمةٍ لا منهجَ تعليم لّلغة العربية، ومن أجل ذلك تجد جلّ القمريين متفاعلين مع اللغة العربية إلى حدّ بعيد، ولكّن ألسنتهم محبوسة عن ممارسة الحديث بها، وأشير هنا إلى أنّ العدوى ربما انتقلت من الكتاتيب القرآنية إلى المدارس النظامية، حيث يدرس فيها الطالب اللغة الشريفة بواقع (2-4) ساعات أسبوعيّاً في المرحلتين المتوسطة والثانوية، أي سبع سنوات كاملة، دون أن يكون الطالب قادراً على الأخذ والعطاء باللغة العربية في أبسط مسائل الحياة، في حين نجدهم ينطلقون بالحديث باللغة الإنجليزية بعد دراستها مدة (3-6) أشهر، وهو أمر يدعونا إلى مزيد من التأمّل في أسباب تلك الظاهرة، ونتائجها السالبة على حاضر العربية ومستقبلها في البلاد؛ ابتغاء معالجتها وتجاوزها، خصوصاً حينما نعلم أنّ جذور اللغة العربية كامنة في النفوس، تجري في القمريين مجرى الدم في العروق، فهي لغة الآباء والأجداد، ولغة الدين والقرآن، ولغة الإدارة والديوان، في هذه الديار، منذ سالف الأزمان، وعليه؛ فإنّ أي مشروعٍ جادٍّ لإعادة إطلاق لسان العربية وتوطينها هو مشروع ناجح بالطبيعة والسليقة، ولكنه معاق بالسياسة وسوء الطوية، ودليلي على ذلك أنّ المدارس الأهلية والخاصة التي تطبق نظام التعليم الثنائي نجحت نجاحاً مشهوداً في اقتحام هذه العقبة، وبذلك تظل تلك المدارس والكتاتيب القرآنية الأهلية هي الملاذات الآمنة للغة الشريفة والتربية الإسلامية القويمة، في الأرخبيل حتى إشعار آخر، كما أنّ الاشتغال بإصلاحها وتطويرها يظل استثماراً مؤكداً، وميداناً فسيحاً لإعادة بعث الدور المنشود للكتاتيب القرآنية في صناعة الشخصية وبناء الهوية الوطنية.

ج - تعليم العقيدة ومبادئ الشريعة:

تشكّل العقيدة الدينية لدى الشعوب واحداً من أهم دعائم هويتها الوطنيّة الجامعة، وفي جزر القمر تنهض الكتاتيب القرآنية، بجانب الحلقات التعليمية في المساجد، بهذا الواجب الشرعي والوطنيّ المقدس، في تعليم الناشئة العقيدة الإسلامية ومبادئ الدين على منهج أهل السنّة والجماعة، نهوضاً حصريّاً، إلى عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات، حين انضمت إليها المدارس الإسلامية الحديثة ذات التعليم المزدوج، ثم افتتاح كلية الإمام الشافعي عام 2003م للغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة جزر القمر.

ظلت تلك المهمة حكراً على الكتاتيب أحقاباً ودهوراً، حيث يتعلم الناشئة أركان الإسلام والإيمان، والطهارات والنجاسات، وأنواع العبادات التي كتبها الله على المؤمنين، دون التطرق للخلافات، ويتخرج التلميذ أو التلميذة منها وقد ألمّ واستوعب ما لا يُعذر المسلم بجهله، محصناً من التيارات والمذاهب الهدامة، على نحوٍ يوحّد توجّه المجتمع وأنماط التدين فيه، بما لا يأذن بنشوء نتوءات فكرية أو عقدية ضارة بوحدة المجتمع وانسيابيته في تعظيم شعائر الدين وإعلاء قيمة الحياة والأحياء.

وقد مثّلت التعاليم الإسلامية واللغة العربية في رحاب الكتاتيب والحلقات التعليمية نقطة الارتكاز في تشكيل الهوية الوطنيّة الجامعة، وعاملاً داعماً للوئام الأهلي والسلم المدني، وسنداً لمنظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية، التي تصبّ في نهر الأخوة الإسلامية، التي صهرت السلالات البشرية المكونة لأصول الشعب القمري في بوتقتها، ليغدو الشعبُ القمري كلّه أجمع خليّةً اجتماعيةً متآلفة في قيمه وأهدافه ومُثله العليا، تحت دوحة (الهوية الوطنية القمرية)، سوى أنّ: «العنصر العربي الإسلامي كان أقوى تأثيراً في نواحي الحياة العامة للمجتمع القمري؛ باعتباره النموذج الذي توحّد في ظلاله آمالهم الدينية والحضارية».

د - التنشئة على منظومة القيم المجتمعية:


من أظهر جوانب التربية الأخلاقية والمجتمعية، التي تُعنى بها الكتاتيب القرآنية، تربية الناشئة على تقديس المقدَّس وتعظيم المُعظَّم من الشرع الحكيم أو من العقل السليم، ففي الكتاتيب القرآنية القمرية التزامٌ صارمٌ بحرمة مسّ المصحف الشريف إلا للمتطّهرين، حتى إنّ البنات يتغيبن عنها أيام الطمث، وحرمة وضع شيء فوق المصحف الشريف، ففي قرارة نفوسهم إيمانٌ راسخ بأنّ القرآن يعلو ولا يُعلى عليه، وإذا حصل أن وقع المصحف أو شيء منه على الأرض بادر الجميع متسابقين إلى رفعه، وضمّه إلى صدورهم إعلاناً للاستغفار وإعراباً عن بالغ الأسف مما بدر منهم أو بحضرتهم؛ تعظيماً لشأن القرآن العظيم.

كما أنّ فرض (الخميسية)، التي يتوجّه فيها الناشئة صباح كلّ خميس لتقديم خدمة معيشية لشيخهم المتطوع أصلاً في عمله، يمكن النظر إليه باعتباره أسلوباً للتدريب على ربط الناشئة بالعمل والكسب، وتعويدهم على الجدّ والسعي في طلب الرزق، وهو في الوقت نفسه ترسيخ لمبدأ توقير العلم وأهله، وتقديم الشكر إلى من أسدى إليهم المعروف.

ويتلقى التلاميذ دروساً عملية في حبّ الوالدين والإحسان إليهما وتعظيم شأنهما، وفي إكرام الضيف، وتوقير الكبير ورحمة الصغير، كما تُعقد لهم دروسٌ خاصة في اتباع السنن النبوية، والاقتداء بسير أعلام النبلاء من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.

كلّ تلك الممارسات تعمل على صياغة منظومة قيمية نبيلة جامعة لشمل المجتمع، تصبّ في تربية الناشئة على أنّ في الحياة أشياء نجلّها ونقدرها، وشخصيات نحترمها ونصونها، وأن فيها سلوكيات وأخلاقاً ندينها ونشجبها، بل نحرّمها بحكم الشارع الحكيم، أو نستنكرها ونرفضها بمنطق العقل السليم، وقد ظلّت تلك التربية النابعة من الكتاتيب صمام أمن المجتمع وأمانه، ومفتاحاً للوئام الأهلي، تُرسّخ قيم الخير والصلاح، وتُوطِّد بعمق مكونات الهوية الثقافية والاجتماعية للشعب القمري.

وقد أشار الشيخ الصواف إلى منظومة القيم النبيلة السائدة في الشعب القمري التي عايشها في رحلته الشهيرة إلى جزر القمر، فقال: «شعب هذه الجزر شعبٌ مؤمنٌ، وديعٌ كريمٌ، دمث الأخلاق كريم الطباع، يتسم بالهدوء والسكينة والوقار».

ويشير الدكتور مصطفي الزباخ إلى جوانب نجاح الكُتّاب في تشكيل مكونات الهوية، والاحتياجات المعيقة لتقدمها، فيقول: «إذا كانت الكتاتيب قد أسهمت بقسطٍ كبيرٍ في صيانة الهوية الإسلامية للمجتمع القمري التقليدي عبر التاريخ؛ فالمطلوب منها التأهب للعصرنة تطويراً وتحديثاً.. وهنا نطالب الخيّرين والموسرين، من المحسنين البررة، إلى الأخذ بزمام المبادرة وحسن الاستجابة إلى متطلباتها الآنية المتمثلة في:

1 - حاجتها إلى برامج ومناهج هادفة، وكتبٍ مدرسيةٍ ملائمة، بجانب المنهاج الرسميّ الحكومي.

2 - حاجتها إلى تكوينٍ تربويٍّ لائق للمدرسين والمفتشين فيها.

3 - حاجتها إلى مراقبةٍ تربويةٍ موجّهة وضابطة للعملية التعليمية بها.

4 - حاجتها إلى وسائل التدريس الأساسية: كتب، سبورات، مصاحف، مقاعد، بُسط، ثم الوسائل الحديثة المتمثلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتوفير أجهزة الحاسب الآلي».

بقلم نور الدين محمد باشا

 المصدر: qiraatafrican.com
captcha